تبقى الحسبة بكلّ فروعها ومجالاتها واجباً من واجبات الدولة الإسلامية، تحت أي مسمّى سائغ، شريطة أن يكون مرجع أحكامه الشريعة الإسلامية ومتطلباتها من قضايا السياسة الشرعية المتفرعة عن نظام الحسبة في الدولة الإسلامية: الحسبة والرقابة البلدية على الأسواق وما إليها.. وهو موضوع يكشف مدى إهتمام المحتسب في العصور الإسلامية المظلومة التي تزامنت مع العصور المظلمة بالنسبة لأوروبا بحماية المستهلك، ثمرةً من ثمرات منع وقوع المنكر في الشرع وإزالته إذا وقع.. ومن يستعرض فهارس كتب الحِسبة التي تتطرق للجوانب العملية، ككتاب: الرتبة في طلب الحسبة، لأبي الحسن الماوردي 364-450هـ، وكتاب: معالم القربة في أحكام الحسبة، لضياء الدين ابن الإخوة 648-729هـ على سبيل المثال ليس إلا، فإنَّه يجد أموراً عجيبة ولطيفة وظريفة أحياناً، وذلك حين يعدّدون أنواع الاحتساب التي تتعدد بتعدد المهن والحرف والمنتجات الغذائية والصناعات.. إلخ.. وهنا سأتحدث عن مجال واحد فقط، وهو الإحتساب على ما يتعلق باللحوم والأطعمة وبعض ما يلحق به مما يتعلق بالحيوان، من غير المسائل التي عالجتها كتب الفقه العام، أو ما يدخل فيما يعرف قديماً بالاحتساب على: غشّ المبيعات، وتدليس أرباب الصناعات.. إلخ
وسأضرب لذلك أمثلة يسيرة من كتاب الماوردي في الموضوع السابق فقط، لضيق المقام، وبه أقرِّب هذا الجانب من تراثنا، وهو أشبه بنافذة على حياة الناس في هذا الموضوع، في ذلك العصر الذي مضى عليه ما يقارب عشرة قرون، كما يكشف نماذج من التعليمات البلدية التي يفرضها جهاز الحسبة في هذا الموضوع آنذاك: فمن ذلك ما جاء في: الحسبة على الجزّارين فقد قال الماوردي: وأمَا القصّابون فيمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب حوانيتهم، فإنَّهم يلوثون الطريق بالدم والروث، وهذا منكر يجب منعه، فإنَّ في ذلك تضييقًا للطريق، وإضراراً بالناس... بل حقه أن يذبحه بالمذبح. ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن، ولا يخلطوا بعضها ببعض، وينقّطوا لحم المعزّ بالزعفران، ليتميز عن غيرها، وتكون أذناب المعز معلقة على لحومها إلى آخر البيع....
ومنها قوله في الإحتساب على الطباخين: يؤمرون بتغطية أوانيهم، وحفظها من الذّباب وهوامّ الأرض، بعد غسلها بالماء الحارّ والأشنان، وألا يخلطوا لحوم المعز بلحوم الضأن، ولا لحوم الإبل بلحوم البقر، لئلا يأكلها من كان به مرض فيكون سبباً لنكسته.. ونبه المحتسبين إلى بعض طرق الغشّ لدى الطباخين، ثم قال: ولولا أني أخاف أن أنبه كلّ من لا دين له على غشّ الأطعمة لذكرت من ذلك جملاً كثيرة، ولكني أعرضت عن ذكرها مخافة أن يتعلّمها أوغاد الناس! وقال: ولا يقدم على أطعمة الناس إلا من يعرف جميع الأطبخة، ولا يقف على اللوح إلا من كان ثقة أميناً على أموال الناس، وقال: ومتى فسد السمك المجلوب أو الكسود، رمى به على المزابل خارج البلد.
ومنها قوله في الحسبة على النقانقيين: والأَولى أن تكون مواضعهم التي يضعوا فيها النقانق بقرب دكّة المحتسب! ويلزمهم المحتسب ألا يعملوا إلا بين يديه، فإنَّ غشّهم فيها كثير، ويأمرهم بتنقية اللحم وجودته... ويكون عنده واحد حين يدقّ اللحم، بيديه مذبَّة يطرد الذباب بها... ويأمرهم المحتسب بتغيير الطاجن الذي تقلى فيه في كلّ ثلاثة أيّام.
قال الماوردي في منكرات الأسواق مبيناً واجب أهلها: ويأمر المحتسب أهل الأسواق بكنسها وتنظيفها من الأوساخ المجتمعة.. وغير ذلك مما يضرّ بالناس، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار».
ولم تقف أعمال الإحتساب الرسمي في شأن السوق عند العناية بالإنسان، بل كان للحيوانات نصيب منها، قال الماوردي: ويأمر المحتسب حاملي الحطب، والتبن، والبلاط، والكرنب واللفت والبطيخ والقَرَظ إذا وقفوا في العراص أن يضعوها عن ظهور الدوابّ، لأنَّها إذا وقفت والأحمال عليها أضرّتها وكان ذلك تعذيبًا لها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان لغير مأكلة، وقال: وينبغي لأرباب الدواب أن يتقوا الله تعالى في إستعمالها، وأن يريحوها في كل يوم وليلة، لحاجتها إلى الراحة والسكون....
وأختم بالحلوى! قال الماوردي في باب الحسبة على الحلوانيين: الحلوى أنواع كثيرة وأجناس مختلفة، ولا يمكن أن نضبطها بصفة، وعيار أخلاطها مختلفة على قدر أنواعها، مثل: النشا، واللوز، والفستق.. وغير ذلك، فقد يكون كثيراً في نوع، وقليلاً في نوع آخر، وإنَّما يرجع في ذلك كلّه إلى العرف، ونذكر ما إشتهر منها، وهي: المقرصية، والمسكب، والصابونية -سميت بذلك لأنها تقطع في قوالب تشبه الصابون- واللوزية... والقطائف المقلي، والعاضدية، ورأس العصفور، وساق الخادم، والحما، والبانوا، وزلابية إفرنجية، وكعك تركي، وأفطوا،... والصعيدية، ولقم القاضي، وخدود الترك... وأسيوطية، ولبابية وردية، مسلوقة اليقطين ... وهريسة الورد...وبندق كعب غزال... ولوزينج رطب...، وكل واشكر، ودلالات بنت الصالح، وأمشاط سكري.
وينبغي أن تكون الحلوى تامّة النضج غير نية، ولا محترقة، ولا تبرح المذبّة في يده يطرد عنها الذباب. ويعتبر عليهم ما يغشون به الحلوى، فإنَّ كثيراً منهم يعمل المقرضة بغير عسل النحل... ويقولون للزبون إنّها بعسل النحل وهذا غشّ....
ثم ذكر بعض طرق الحلوانيين في غشّ الحلوى وكيفية كشف غشها، وبيّن مقادير أنواع الحلوى وأخلاطها بالأرطال، وبيّن أنَّ تجاوزها يعدّ مخالفة يؤاخذ بها الحلواني الذي يتجاوز.
هذه إطلالة مختصرة معتصرة من الإحتساب في الأسوق قبل ما يقارب عشرة قرون، وهو أحد مهام نظام الحسبة الواسع في الدولة الإسلامية على مرّ التاريخ، إلى أن جاء محمد علي فأنهى نظام الحسبة الإسلامي القديم الشامل من مصر، وتوزعت عدد من مهام نظام الحسبة في المملكة على عدد من الجهات، وبقي نظام الحسبة موجودًا تحت مسمى: هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقيت له مهام يغلب عليها الجانب المتعلق بالمنكرات الظاهرة في العقيدة والأخلاق وما إليها، مما يتطلب تأهيلاً شرعياً خاصاً في من يقوم به.
وما زال مسمى الحسبة والمحتسب موجوداً في بعض الأنظمة المعاصرة في العالم الإسلامي، من ذلك ظهير شريف صدر عام 1402هـ بالمملكة المغربية، يتضمن الأمر بتنفيذ القانون المتعلق بإختصاصات المحتسب وأمناء الحرف، وصدر بعده ما يشابهه أيضًا..
وأخيراً: تبقى الحسبة بكلّ فروعها ومجالاتها واجباً من واجبات الدولة الإسلامية، تحت أي مسمّى سائغ، شريطة أن يكون مرجع أحكامه الشريعة الإسلامية ومتطلباتها، وأن يقوم بواجباته الشرعية على مقتضى الشريعة الإسلامية.
الكاتب: سعد بن مطر العتيبي.
المصدر: موقع المحتسب.